جريمة إهمــــال الأســرة في التشريع المغــربي
إعداد: زهير الحرش
باحث في الميدان القانوني
تتناثر مفاهيم "العدالة" و "الديموقراطية" و "الحداثة".. و غيرهم من المفاهيم المشابهة في فضاء المنتديات مهما اختلفت مواضيعها ومحاورها، وكأننا في "موضة كلامية" يعمد الجميع إلى توظيفها في فرص التعابير. إلا أن هذا الإصرار على تداولها يبقى مسألة صحية من حيث المبدأ، على أساس أن الإصرار على استعمالها ، و لو على مستوى الخطاب، ينم على نوع من الشغف بها.
و إذا كانت الأسرة هي أولى حلقات المجتمع، فإن الإهتمام بها و بمختلف مكوناتها يجب أن يحضى بالأولوية في خضم أي مشروع تقدمي، حداثي، ديموقراطي خال من العقد الإجتماعية. وكذا لأن ترسيخ الدعائم القانونية لمؤسسة الأسرة من شأنه أن يكرس العدالة الإجتماعية في أولى حلقاتها.
ووعيا بالأهمية الكبرى لمؤسسة الأسرة و ضرورة الإهتمام بها، كانت معظم التشريعات حريصة على جعلها في صلب اهتماماتها، و من بينها التشريع المغربـي. وسنتناول في هذا البحث موضوع أو إشكالية "إهـمال الأسرة " ، وذلك لنتائجه الإجتماعية و غير الإجتماعية الوخيمة.
إن الزواج باعتباره إحدى أقدس الروابط الإجتماعية و القانونية، حضي أزليا بقيمة رفيعة لدى مختلف المجتمعات البشرية. و هذا التقديس لم يكن لأجل الزواج في حد ذاته بالقدر ما كان للاثار التي يسفر عنها. ذلك أن النظام القانوني إجمالا يجعل من العقد أيا كان موضوعه محل تقديس و اهتمام، فكيف بعقد من نوع خاص ألا وهو عقد الزواج؟؟ و إذا كان النظام القانوني قد أنزل الإلتزامات التعقدية منزلة الرفعة والسمو، فكيف بالإلتزامات الناجمة عن عقد الزواج؟؟
و إيـمانا من المشرع المغربي بضرورة الحفاظ على الروابط الأسرية، في مسايرة مثيرة منه للمنظور الإسلامي ولتقاليدنا التكافلية، فإنه جعل من جريمة إهمال الأسرة قابلة للتحقق سواء بالإخلال بالإلتزامات الأسرية أو بالتنكر لجمـيل الأصـول.
وسنحاول من خلال هذا البحث، مقاربة إشكالية "إهمال الأسـرة"ً، وذلك بالعمل على استجلاء ماهية إهمال الأسرة من جهة (الفصل الأول)، وبتناولها من زاوية المعالجة التشريعية لها من جهة ثانية (الفصل الثاني).
الفصل الأول:
فـي ماهـيـة إهــمـال الأســـرة
إن تناول أي ظاهرة، لابد من مقاربتها لغويا، إجتماعيا و قانونبا. فتناولها من هذه الزوايا الثلاث كفيل بأن يقربنا من ماهيتها أو بالأحرى من مفهومها.
وإذا كانت الزاوية اللغوية لاتطرح أية إشكاليات على مستوى المعنى، فإن الزاوية الإصطلاحية التي تتطابق مع الزاوية الإجتماعية تعطينا مفهوما هاما لإهمـال الأسرة. فهي تعني اللامبالات التي قد تصل حد الإستخفاف و الإستهزاء بالإلتزامات الأسرية، ذلك أن نظام الزواج كعلاقة مقدسة أحيط بعدة ضمانات أخلاقية و إجتماعية قبل أن تكون قانونية. وإذا كان تقديس هذا الرباط امرا مسلما به، فإن ذات التسليم يجب أن تحضى به الاثار و النتائج الناجمة عن العلاقة الزوجية، و إن أي إخلال بها إنما هو إهمال و استهتار بنظام الأسرة ككل، و لا تمييز بين الزوج و الزوجة في هذا المضمار، فكل راع وكل مسؤول عن رعيته. كما لا يعتد بحجم الإخلال الذي يتحقق بموجبه إهمال الأسرة و التي تعتبر وحدة متكاملة.
و بالتالي، فإن المفهوم الإجتماعي لإهمال الأسرة مفهوم واسع جدا ولايضع حدا لصورها، بل يعتبر أن أي إخلال بالإلترامات الأسرية هو إهمال للواجب الأسري و أن الآثم قد يكون الأبناء في مواجهة الاباء أو العكس، كما قد يكون الزوج في مواجهة الزوجة و العكس صحيح أيضا.
و هذا المفهوم الإجتماعي، و إن كان واضحا و بسيطا، إلا أنه غير دقيق بالمرة. كما أنه يحتمل تأويلات و تنظيرات لا حصر لها.
أما من الزاوية القانونية، التي تعنينا هنا بالدرجة الأولى، فإننا باستقراء النصوص القانونية المنظمة لإهمال الأسرة، نجد أنها تختلف عن المفهوم الإجتماعي لها، و إن تشاركا في التصور العام.
فما المقصود بإهمال الأسرة وفق المنظور القانوني؟
إن خطورة الإستهزاء بالرابطة الأسرية، دفع بالمشرع إلى تناول هذه الظاهرة في إطار قانون زجري هو القانون الجنائي بدلا من تناولها في مدونة الأسرة مثلا.
وهكذا اعتبر المشرع المغربي إهمال الأسرة جريمة، و تناولها مجموعة القانون الجنائي في الكتاب الثالث / الباب الثامن المتعلق بالجنايات و الجنح ضد نظام الأسرة و الأخلاق العامة، و خص لها فرعا مستقلا هو الفرع الخامس و الذي تناول هذه الجريمة في أربعة فصول هي الفصول من 479 إلى 482 ق.ج.
وإنه بقراءتنا لهذة لهذه الفصول ، نلاحظ أن المشرع الجنائي قسم ضمنيا الإهمال الأسري إلى ثلاث أشكال اساسية و هي:
- الإهمال المــادي - الإهمـال المالــي - الإهمـال المعــنوي
يتجلى الإهمال الأول ( المادي ) في:
* ترك الأب أو الأم لبيت الأسرة دون موجب قاهر لمدة تزيد عن شهرين.
* ترك الزوج ، عمدا و دون موجب قاهر لمدة تزيد عن شهرين، زوجته و هي حامل مع علمه بذلك.
يتجلى الإهمال الثاني ( المالي ) في:
*الإمساك العمدي عن دفع النفقة إلى الزوجة أو أحد الأصول أو الفروع في الموعد المحدد بموجب حكم نهائي أو قابل للتنفيد المؤقت.
و يتجلى أخيرا الإهمال الثالث (المعنوي) في:
* تسبب أحد الوالدين في إلحاق ضرر معنوي بالغ بأطفاله أو بواحد أو أكثر منهم، كيفما كان شكل هذا الضرر، و إن كان المشرع المغربي قد أخد على عاتقه إعطاء صور لهذا الضرر المعنوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق